بسم الله الرحمن الرحيم
هل يجدد الجسمَ الصيامُ ؟
الدكتور
حسان شمسي باشا
استشاري أمراض القلب
في مستشفى الملك فهد للقوات المسلحة بجدة
زميل الكلية الملكية للأطباء في لندن
زميل الكلية الملكية للأطباء في أيرلندا
زميل الكلية الملكية للأطباء في غلاسجو
زميل الكلية الأمريكية لأطباء القلب
ها هو رمضان حل علينا ببركاته ونعمائه ، والناس – كما يقول الدكتور مصطفى السباعي- إزاءه أنواع : فمنهم من لا يرى فيه أكثر من حرمان لا فائدة منه ، وتقليد ديني لا مبرر له ، فهو عازم على الإفطار فيه ، مجاهر بذلك يستهزئ من الصائمين . ومنهم من لا يرى فيه إلا جوعا لا تتحمله أعصاب معدته ، وعطشا لا تقوى عليه مجاري عروقه ، فهو عازم على الإفطار ، متظاهر بالصيام أمام من لا يعرفه . ومنهم من يرى في رمضان موسما سنويا للموائد الزاخرة بألوان الطعام والشراب ، وفرصة جميلة للسهر واللهو الممتد إلى بزوغ الفجر والنوم العميق في النهار حتى غروب الشمس ، فإذا كان ذا معاملة ساءت معاملته ، وإن كان موظفا ثقل عليه أداء واجبه .
ومنهم – وهم الفائزون – من يرون في رمضان شهرا غير هذا كله . يرون فيه دورة تدريبية لتجديد معان في نفوس الناس من الخلق النبيل ، والإيثار الجميل ، والصبر الكريم .
أما الذين لا يرون في الصيام انسجاما مع تطور الحضارة ، فقد اكتشف العلم الحديث من فوائد الصيام ما ألفت فيه الكتب ، ونشرت عنه الأبحاث في المؤتمرات والمجلات . وأما الذين تنهزم عزائمهم أمام جوع الصيام وحرمانه وهم مؤمنون بفرضيته ، فنذكرهم أن المنهزمين في ميدان صغير ليسوا أهلا لأن يحرزوا النصر لأمتهم في ميدان كبير .
وأما الذين يرون في رمضان جوعا في النهار ، ومتعة مادية في الليل ،فقد أخطؤوا في فهم رمضان.
الصوم وجهاز الهضم:
ومن الناس من يفرط في طعامه وشرابه .. لا لسبب إلا لإخماد لهيب القلق ، أو الهم الذي يعيشه .. وهؤلاء يسببون لأنفسهم عسرا في الهضم ، وتلبكا في الأمعاء . وهم بذلك يصرفون اهتمام جهازهم العصبي عن مشاكل الحياة اليومية إلى ما يعيشونه من متاعب الأمعاء والقولون فيتعطل تفكيرهم ،وينشغل بالهم بعملية الهضم وهذا مصداق الحكمة القائلة : " البطنة تذهب الفطنة " . فالصوم يجلب الراحة للمعدة ، ويتيح لها فرصة إصلاح ما أتلف منها . والمعدة التي طالما تمددت أثناء عملها المفرط تستعيد حجمها العادي ، وتنكمش عندما تكون فارغة خلال فترة الصوم . ويسير ما أصاب المعدة من متاعب والتهاب نحو الشفاء .
ولا شيء يمكن أن يرجع النشاط لجهاز هضمي متعب ، ولأمعاء منهكة ، وغدد مرهقة مثل الصوم الصحي .. يقول الدكتور ديوي : " إن الصوم يعتبر بمثابة راحة استشفائية " . ويقول : " إن الراحة لا تشفي من كسر في العظم ، ولا جرح من الجروح .. ولكنها – أي الراحة – تهيئ جميع الظروف اللازمة للشفاء "
ويقول الدكتور شيلتون : " إن المعدة العليلة أو الضعيفة تستفيد من فترة الراحة التي يتيحها لها الصوم ، تحسن من مستوى وظيفتها ، وترفع من نشاط الغدد في جدارها ، وتعود بعد الصوم إلى العمل بحيوية أكثر " .
الصوم .. والقلب :
وكثيرا ما نسمع عن نوبات قلبية حادة حدثت أثناء وجبة أكل مفرطة ، أو بعدها مباشرة . وتجد ضحايا هذه النوبات المباغتة غالبا من ذوي الأجسام المثقلة بالشحوم ، والمفرطين في الأطعمة الدسمة .
ولا شك أن في الصيام فائدة عظيمة لكثير من مرضى القلب ، وذلك لأن عشرة في المائة من كمية الدم التي يدفع بها القلب إلى الجسم تذهب إلى الجهاز الهضمي أثناء عملية الهضم . وتنخفض هذه الكمية أثناء الصوم حيث لا توجد عملية هضم أثناء النهار . وهذا يعني جهدا أقل لعضلة القلب ، وراحة أكبر للجسم
الصوم والجهاز العصبي :
الجهاز العصبي هو مركز القيادة في الجسم . فهو يتحكم في كل أعضاء الجسم .. يتلقى الأخبار والمعطيات ، يدرسها ويحللها .. ثم يرسل إلى الأعضاء الأوامر والتنبيهات . ويخطئ من يعتبر الجهاز العصبي جهازا مستقلا بذاته ، ويجعل من أمراضه أمراضا مستقلة به .. فآثار الإفراط في الطعام تنعكس على الجهاز العصبي مثلما تنعكس على العديد من أجهزة الجسم .
ويقول المثل الروماني القديم : " المعدة العامرة لا تحب أن تفكر " . وإذا كانت البطنة تذهب بالفطنة ، فإن الصوم يقوي الفطنة ويحسن نشاطها ، فلقد كان المفكر اليوناني سقراط يصف بالوحشية أو بالهمجية الذين كانوا يتناولون أكثر من وجبتين غذائيتين في اليوم .. ترى ما عساه أن يصف " متمدني العصر الحديث " الذين يأكلون لذائذ الطعام في وجبات ثلاث وما بين الوجبات ، وما تشتهيه الأنفس من مقبلات ومشهيات ، ثم يخلدون للنوم على ضجيج المعدة والأمعاء ، تتقلب على بعضها البعض مثقلة بما فيها من مأكولات . وما أن يستيقظوا في الصباح حتى يعودوا لتناول الطعام من جديد .
والذين يظنون أن الطعام يشفي من المرض يخطئون .. إلا فلماذا يمرض المسرفون في الطعام من الأغنياء ؟ .. ولماذا يصح الصائمون .. وتقوى مناعتهم ؟
وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفات يمكن أن تصيب القرون من بعده فقال:
" خَيْرُكُمْ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ قَالَ عِمْرَانُ لا أَدْرِي أَذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدُ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلاثَةً قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَخُونُونَ وَلا يُؤْتَمَنُونَ وَيَشْهَدُونَ وَلا يُسْتَشْهَدُونَ وَيَنْذِرُونَ ولا يَفُونَ وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ * رواه الشيخان
هل يسبب الصوم الوهن ؟
فالشخص الذي يتناول ثلاث وجبات في اليوم غنية بأطايب الطعام .. ثم يتبع ذلك ما شاء من القهوة والشاي والتدخين .. لا بد له من أن يعاني في بداية الصوم من الحرمان من كل ما لذ وطاب .. بل ربما لا يستطيع القيام بأي عمل .. إنه الإحساس الخيالي بالضعف والوهن .. ولكن المسلم الحق الذي ينوي الصيام إيمانا واحتسابا .. وأنه يفعل ذلك امتثالا لأمر الله تعالى، فلا بد أن يشعر بالحيوية والنشاط مع بداية رمضان ، وتقوى عزيمته وإرادته ، ويحارب شهواته وغرائزه .
الصوم ..وسموم العصر :
إن الفاجعة التي نواجهها في حياتنا اليومية تكمن في تدخل التكنولوجيا العصرية في صناعة التغذية . وتستعمل مصانع التغذية المواد الكيميائية استجابة لمطالب الزبائن وأذواقهم .. فتعمد إلى تحسين منتجاتها باستمرار ، غير أن هذا التحسين يحدث على حساب القيمة الغذائية لتلك المواد . ورغم كل ما يقال عن تلك المواد المضافة التي تستخدم في تحسين أو تلوين الأغذية المختلفة ، فإننا مازلنا نجد الكثير من الأغذية المعبأة أو المحفوظة على رفوف " السوبر ماركت" في كل مكان .. فلن تجد حلوى ، أو مشروبات ملونة ، أو سكاكر ، إلا وأدخل فيها من الأصباغ الكيميائية ما يعطيها تلك الألوان الزاهية المثيرة .
ويحلف لك أرباب المصانع – كما يقول الدكتور إدريس بنيوسف – أن هذه الأصباغ لا ضرر فيها إطلاقا . وهو قولا لا يقنع أحدا اليوم .. خاصة وأن تراكم تلك المواد الكيميائية في الجسم يزداد يوما بعد يوم .
ولا ننسى العديد من التسممات التي يتعرض لها كثير من الناس ، كالتسمم بالتدخين وبالقهوة والشاي .. أو بالأصباغ والعطور الكيميائية المصنعة الموجودة في المواد الغذائية .
ولا شك أن الصوم يمنح الجسم الفرصة لإعادة توازن ثوابته ، كما يسهل التخلص من السم المتبقي من الجسم بسرعة .. فضلا عن تقوية إرادة المريض بالصوم .
وبقوة الإرادة التي يكتسبها الشخص بالصوم .. يصبح بإمكانه القدرة على ألا يعود ثانية لما يؤذيه ويضر بصحته .
الـصداع والصوم :
الصداع في رمضان شكاية شائعة ، وله أسباب عديدة منها السهر وقلة النوم ، والحرمان من قهوة الصباح والسجائر عند من كان معتادا عليها ، والجوع ، والإفراط في الجهد في يوم ما وغيرها . ويزداد الصداع في أواخر النهار . وإذا ما ترافق الصداع بهبوط ضغط الدم فقد يكون الصداع شديدا ، وربما يحدث الغثيان قبل الإفطار .
ولتجنب حدوث الصداع في رمضان ينبغي تخفيف القهوة والشاي تدريجيا قبل أسبوع أو اثنين من بداية رمضان ، إلا أنه يمكن تناول القهوة أو الشاي الخالية من الكافئين .
وينبغي التأكيد على التخفيف من التدخين قبل رمضان . وربما يتسنى لهؤلاء المدخنين التوقف عن التدخين نهائيا في رمضان .
ولا ينبغي أن نغفل أثر السهر في حدوث الصداع والإعياء في نهار رمضان ، لذلك كله علينا تجنب السهر قدر الإمكان ما لم تكن فيه عبادة وطاعة لله تعالى . وعلينا أيضا أن نحرص على أخذ قسط كاف من النوم .
الصوم وصحة النفس:
للصيام فوائد نفسية كثيرة ، ففيه تربية وتهذيب للنفس ، وعلاج لكثير من أمراض النفس والجسم . فالإمساك عن الطعام والشراب من قبل الفجر إلى غروب الشمس في جميع أيام شهر رمضان ، إنما هو تدريب للإنسان على مقاومة شهواته والسيطرة عليها ، ويؤدي ذلك إلى بث الإرادة والعزيمة في تهذيب الغرائز والتحكم بها.
الصوم تجديد للجسم :
ويعتبر الجسم مخزنا هائلا لمواد التغذية .. حيث تذهب عناصر الغذاء إلى أي نقطة في الجسم تكون في حاجة إليها . وهكذا يحطم الجسم ما فاض عن حاجته من مخزونه الغذائي إلى مواد أولية .. فتتحول السكريات المعقدة والدهون والبروتينات إلى مواد أولية ملائمة للاستهلاك من قبل الخلايا المختلفة في الجسم .
ولهذا فإن الصوم يبقي على الأنسجة والأعضاء الحيوية ، ولكنه يحطم ويتلف ما فاض عن حاجة الجسم من مخزون . وهذا ما يحدث بشكل واضح أثناء الصوم الطويل . والصوم الطويل ليس بالغريب ولا بالصعب علينا ، فلقد قرأنا في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يصوم شهر شعبان إلا قليلا ، ثم شهر رمضان المبارك ، ثم يتبعه بست من شوال ، أي ما يقرب من ستين يوما متتالية .
وتروي كتب السيرة النبوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شبع قط من خبز الشعير طوال حياته ، وكان معظم طعامه التمر حتى قال صلى الله عليه وسلم : " يَا عَائِشَةُ بَيْتٌ لا تَمْرَ فِيهِ جِيَاعٌ أَهْلُهُ " رواه مسلم في صحيحه
ومما يذكر عن أخبار المعمرين أن أكبر مسن في العالم هو رجل مسلم إيراني بلغ عمره 135 عاما ، وله خمسة أبناء وخمسة وستين حفيدا . وذكر عنه أنه لم يتناول في حياته دواء قط . وأنه كان يصوم يومين من كل أسبوع ، وأنه استمر في رعاية خرفانه حتى تلك السن ...
والصوم يعتبر في الدرجة الأولى راحة للجسم .. راحة لأعضاء أنهكها الإفراط في الطعام .. يمنحها الفرصة لإصلاح ما أصابها من عطب وأذى .. ويعطيها مهلة كافية تطرح فيها السموم والفضلات ، وتصبح جاهزة لمجهود جديد .
ولا بد من الإشارة – كما يقول الدكتور إدريس بنيوسف في كتابه القيم عن الصوم – أن الصوم لا يقوم بإزالة السموم مباشرة ، لأن هذا من واجب أجهزة التفريغ في الجسم ، أما الصوم فهو يمنح هذه الأجهزة الفرصة لإنجاز عملها .. ويعطيها الوقت اللازم لاستكمال هذا العمل حتى لا يتراكم عليها مع مرور الوقت .
كما بين الدكتور آلان سوري في كتابه القيم " التجديد بفضل الصوم " الصادر عام 1987 فوائد الصوم في تجديد حيوية الجسم حتى ولو كان في حالة عدد من الأمراض ، وخصوصا الأمراض الناجمة عن التخمة والإفراط في الغذاء .
وإني أستحضر هنا ما قاله الدكتور Austin : " أستحلفكم بالله ، أزيلوا الطعام من أمامي إلى أن تعود شهيتي ! إنني أرغب في فترة راحة أنظم فيها حالي وأستهلك فيها مخزوني " .
أليس هذا ما يحدث في الصوم الحقيقي ؟ وهل حقا نصوم رمضان ؟